كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهي بتصورها الاعتقادي، وبنظامها الاجتماعي أهل له. فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي، وبعمارتها للأرض- قيامًا بحق الخلافة- أهلًا له كذلك.. ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير؛ ويدفعها إلى السبق في كل مجال.. لو أنها تتبعه وتلتزم به، وتدرك مقتضياته وتكاليفه.
وفي أول مقتضيات هذا المكان. أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد.. وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي خير أمة أخرجت للناس. لا عن مجاملة أو محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف- تعالى الله عن ذلك كله علوًا كبيرًا- وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: {نحن أبناء الله وأحباؤه}.. كلا! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.
فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب، وبكل ما في طريقها من أشواك.. أنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد.. وكل هذا متعب شاق، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته؛ ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة..
ولابد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر. فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي. فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل. ولابد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر، وللفضيلة والرذيلة، وللمعروف والمنكر. يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال.
وهذا ما يحققه الإيمان، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه. وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون.. ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية. ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد. ومن سلطان الله في الضمائر، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك.
ثم لابد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير، الأمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق، ويحتملوا تكاليفه. وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها، ويواجهون هبوط الأرواح، وكلل العزائم، وثقلة المطامع.. وزادهم هو الإيمان، وعدتهم هي الإيمان. وسندهم هو الله.. وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد. وكل عدة سوى عدة الإيمان تُفلّ، وكل سند غير سند الله ينهار!
وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها.
ليدلها على أنها لا توجد وجودًا حقيقيًا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني. فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- مع الإيمان بالله- فهي موجودة وهي مسلمة. وإما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة. وغير متحققة فيها صفة الإسلام.
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة. ندعها لمواضعها. وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته نقتطف بعضها:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم.. ثم جلس- وكان متكئًا- فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا» أي تعطفوهم وتردوهم.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا، منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم».
وعن عرس ابن عميرة الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر».
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة. ورجل قام إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه، فقتله».
وغيرها كثير.. وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم، وضروراتها لهذا المجتمع أيضا. وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة. وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته.
ثم نعود إلى الشطر الآخر من الآية الأولى في هذه المجموعة..
{ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}.
وهو ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان.
فهو خير لهم. خير لهم في هذه الدنيا، يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية، والتي ما تزال تحرمهم تجمع الشخصية. إذ تعجز هذه التصورات عن أن تكون قاعدة للنظام الاجتماعي لحياتهم، فتقوم أنظمتهم الاجتماعية- من ثم- على غير أساس، عرجاء أو معلقة في الهواء ككل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس اعتقادي شامل، وعلى تفسير كامل للوجود، ولغاية الوجود الإنساني، ومقام الإنسان في هذا الكون.. وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير.
ثم هو بيان كذلك لحالهم، لا يبخس الصالحين منهم حقهم: {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}.
وقد آمن من أهل الكتاب جماعة وحسن إسلامهم. منهم عبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن شعبة، وكعب بن مالك.. وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال- وفي آية تالية بالتفصيل- أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله، حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين: أن يؤمن كل منهم بأخيه الذي يجيء بعده، وأن ينصره. وفسقوا عن دين الله وهم يأبون الاستسلام لإرادته في إرسال آخر الرسل من غير بني إسرائيل، واتباع هذا الرسول وطاعته ولاحتكام إلى آخر شريعة من عند الله، أرادها للناس أجمعين.
ولما كان بعض المسلمين ما يزالون على صلات منوعة باليهود في المدينة، ولما كانت لليهود حتى ذلك الحين قوة ظاهرة: عسكرية واقتصادية يحسب حسابها بعض المسلمين، فقد تكفل القرآن بتهوين شأن هؤلاء الفاسقين في نفوس المسلمين، وإبراز حقيقتهم الضعيفة بسبب كفرهم وجرائمهم وعصيانهم، وتفرقهم شيعًا وفرقًا، وما كتب الله عليهم من الذلة والمسكنة.
{لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
بهذا يضمن الله للمؤمنين النصر وسلامة العاقبة، ضمانة صريحة حيثما التقوا بأعدائهم هؤلاء، وهم معتصمون بدينهم وربهم في يقين: {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون}.
فلن يكون ضررًا عميقًا ولا أصيلًا يتناول أصل الدعوة، ولن يؤثر في كينونة الجماعة المسلمة، ولن يجليها من الأرض.. إنما هو الأذى العارض في الصدام، والألم الذاهب مع الأيام.. فأما حين يشتبكون مع المسلمين في قتال، فالهزيمة مكتوبة عليهم- في النهاية- والنصر ليس لهم على المؤمنين، ولا ناصر لهم كذلك ولا عاصم من المؤمنين.. ذلك أنه قد {ضربت عليهم الذلة} وكتبت لهم مصيرًا. فهم في كل أرض يذلون، لا تعصمهم إلا ذمة الله وذمة المسلمين- حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وتنيلهم الأمن والطمأنينة- ولم تعرف يهود منذ ذلك الحين الأمن إلا في ذمة المسلمين.
ولكن يهود لم تعاد أحدًا في الأرض عداءها للمسلمين!..
{وباءوا بغضب من الله}.. كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب.
{وضربت عليهم المسكنة} تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم..
ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية. فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر- ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم، وأقاموا منهج الله في حياتهم- وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم.
ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود. فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم، مهما تكن دعواهم في الدين: أنه المعصية والاعتداء: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
فالكفر بآيات الله- سواء بإنكارها أصلًا، أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة- وقتل الأنبياء بغير حق. وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة- والعصيان والاعتداء.. هذه هي المؤهلات لغضب الله، وللهزيمة والذلة والمسكنة.. وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين. الذين يسمون أنفسهم- بغير حق- مسلمين! هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة. فإذا قال أحد منهم: لماذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون؟ فلينظر قبل أن يقولها: ما هو الإسلام، ومن هم المسلمون؟! ثم يقول!
وإنصافًا للقلة الخيرة من أهل الكتاب، يعود السياق عليهم بالاستثناء، فيقرر أن أهل الكتاب ليسوا كلهم سواء. فهناك المؤمنون. يصور حالهم مع ربهم، فإذا هي حال المؤمنين الصادقين. ويقرر جزاءهم عنده فإذا هو جزاء الصالحين.
{ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين}.
وهي صورة وضيئة للمؤمنين من أهل الكتاب. فقد آمنوا إيمانًا صادقًا عميقًا، وكاملًا شاملًا، وانضموا للصف المسلم، وقاموا على حراسة هذا الدين.. آمنوا بالله واليوم الآخر.. وقد نهضوا بتكاليف الإيمان، وحققوا سمة الأمة المسلمة التي انضموا إليها- خير أمة أخرجت للناس- فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.. وقد رغبت نفوسهم في الخير جملة، فجعلوه الهدف الذي يسابقون فيه، فسارعوا في الخيرات، ومن ثم هذه الشهادة العلوية لهم أنهم من الصالحين. وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يُبخسوا حقًا، ولن يُكفروا أجرًا.
مع الإشارة إلى أن الله سبحانه علم أنهم من المتقين..
وهي صورة تُرفع أمام الراغبين في هذه الشهادة، وفي هذا الوعد، ليحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير.
هذا في جانب.. وفي الجانب الآخر، الكافرون. الكافرون الذين لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم؛ ولن تنفعهم نفقة ينفقونها في الدنيا ولن ينالهم شيء منها في الآخرة لأنها لم تتصل بخط الخير الثابت المستقيم. الخير المنبثق من الإيمان بالله، على تصور واضح، وهدف ثابت، وطريق موصول. وإلا فالخير نزوة عارضة لا ثبات لها، وجنوح يصرفه الهوى، ولا يرجع إلى أصل واضح مدرك مفهوم، ولا إلى منهج كامل شامل مستقيم..
{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون}.
وهكذا ترتسم هذه الحقيقة في مشهد ينبض بالحركة ويفيض بالحياة على طريقة التعبير القرآني الجميل..
إن أموالهم وأولادهم ليست بمانعتهم من الله، ولا تصلح فدية لهم من العذاب، ولا تنجيهم من النار.. وهم أصحاب النار وكل ما ينفقونه من أموالهم فهو ذاهب هالك، حتى ولو أنفقوه فيما يظنونه خيرًا. فلا خير إلا أن يكون موصولًا بالإيمان، ونابعًا من الإيمان. ولكن القرأن لا يعبر هكذا كما نعبر. إنما يرسم مشهدًا حيًا نابضًا بالحياة.
إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب. فهو حرث. ثم إذا العاصفة تهب. إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة! تحرق هذا الحرث بما فيها من صِرّ. واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف، فيصور معناه بجرسه النفاذ. وإذا الحرث كله مدمر خراب!
إنها لحظة يتم فيها كل شيء. يتم فيها الدمار والهلاك. وإذا الحرث كله يباب! ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا- ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر- ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال.. كلها إلى هلاك وفناء.. دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء..
{وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون}.
فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر، فيجعلها خطًا مستقيمًا ثابتًا وأصلًا. له هدف مرسوم، وله دافع مفهوم، وله طريق معلوم.. فلا يترك للنزوة العارضة، والرغبة الغامضة، والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم..
هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود. فإذا ذهب عملهم كله هباء- حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير- وإذا أصاب حرثهم كله الدمار، فلم يغن عنهم مال ولا ولد.. فما في هذا ظلم من الله- تعالى- لهم.
إنما هو ظلمهم لأنفسهم بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود.
وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان.. يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان؛ ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير..
وفي نهاية الدرس الذي ابتدأ بيانًا لما في سلوك أهل الكتاب من انحراف، وكشفًا لما في جدالهم من مغالطة، وفضحًا لما يريدونه بالمسلمين من سوء، وتوجيها للجماعة المسلمة لتنهض بتكاليفها، دون أن تلقي بالًا إلى المجادلين المنحرفين الفاسقين.. في نهاية هذا الدرس، ونهاية هذا المقطع الطويل من السورة كلها يجيء التحذير للجماعة المسلمة من أن تتخذ من أعدائها الطبيعيين بطانة، وأن تجعل منهم أمناء على أسرارها ومصالحها، وهم للذين آمنوا عدو.. يجيء هذا التحذير في صورة شاملة خالدة، ما نزال نرى مصداقها في كل وقت، وفي كل أرض. صورة رسمها هذا القرآن الحي، فغفل عنها أهل هذا القرآن. فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط}.